الثلاثاء 17 يونيو 2014
لا تعليقات

الطبيعة القانونية لوظيفة المحكّم

      لم يعد جديداً أن نسمع بالعبارة المشهورة التي تتحدث عن أن التحكيم هو في أصله اتفاق ومن ثم إجراء وينتهي إلى قضاء[1]، حيث أن مثل هذه العبارة تقدم وصفة موجزة عن فكرة التحكيم بشكل عام بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع تفاصيلها، وإن كانت العبارات المستخدمة هنا سهلة الفهم إلا أن تفسيرها بحاجة إلى شيء من التفصيل، حيث سنحاول وضع مبررات قانونية لكل لفظة مستخدمة هنا، إذ أنه ليس من السهل أن نسلّم بكل بساطة بهذه المصطلحات المستخدمة حتى وإن بلغت حداً كبيرا من التداول في المراجع الفقهية المتخصصة.[2]

وسعيا للوصول إلى نتيجة تقود لمثل هذا التوضيح فإننا سنحاول في هذه المقالة تناول النظريات الفقهية التي تحاول تفسير طبيعة علاقة المحكم مع عناصر العملية التحكيمية الأخرى، ذلك أن الوصول لمثل هذه النتيجة يؤدي بنا إلى تبني مواقف معينة في مسائل مرتبطة ارتباطا حقيقياً بتحديد طبيعة هذه العلاقة بين المحكم والمحتكمين. وعلى ذلك فإننا سنقوم بتقسيم هذا المقالة إلى ثلاثة أجزاء تدرس النظريات التي قيلت في تحديد هذه الطبيعة، يتناول الأول منها النظرية العقدية والثاني النظرية القضائية والثالث النظرية المختلطة وذلك كما يلي:

الجزء الاول

النظرية العقدية

      النظرية الأولى التي قيلت في تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم عموماً وبالتالي لوظيفة المحكم هي النظرية التي تبنى على الأساس التعاقدي، حيث أن المحكم يستمد سلطاته من إرادة الأطراف والاتفاق المبرم بينهم على التحكيم، ويمكن أيضاً ملاحظة هذه الطبيعة التعاقدية بشكل خاص من خلال اشتمال اتفاق التحكيم على مسائل أخرى غير دور المحكم مثل الإجراءات التي يجب اتباعها عند نظر الخصومة وغيرها من المسائل، وذلك يعطينا الحق بأن نقول إذا سلّمنا بهذه النظرية أن عمل المحكم هو جزء لا يتجزأ من عملية اتفاقية تؤدي بالنتيجة إلى صدور قرار له من الصفات ما للقرار القضائي الصادر عن قضاء الدولة.

ولعل الربط الأخير فيما بين القضاء والتحكيم يفتح علينا باباً للتساؤل يمسّ جوهر هذه النظرية؛ ألا وهو كيف لشخص عادي أن يصدر قراراً في حسم نزاع معين دون أن يكون قد مُنح السلطة الدستورية التي تجيز فض المنازعات كجزء من السلطة القضائية؟؟ نقول في هذا الأمر أن هناك عدة مسائل يمكن الرد بها على هذا التساؤل، أولها أن حكم المحكم لا يحوز القوة التنفيذية الجبرية إلا من خلال إكسائه الصبغة التنفيذية عن طريق النظام القضائي، والذي بنفس الوقت لا يتدخل في مشتملات هذا القرار التحكيمي ما لم تخالف النظام العام[3]، وكذلك فإن مصدر سلطة المحكم هو اتفاق التحكيم، أما مصدر سلطات القاضي الطبيعي فهو الدستور، ولذلك نرى أن المحكم ليس له أن يتجاوز حدود الفصل فيما اشتمل عليه اتفاق التحكيم أما القاضي فهو ينظر في مسائل لا حصر لها، وعلاوة على ذلك فإن له أن يثير مسائل متعلقة بالنظام العام حتى لو لم يطرقها الخصوم[4].

وقد حاول أنصار هذه النظرية تبريرها بعدة منطلقات هي ملامح رئيسية للعقود، أهمها أن المحكم يستمد سلطاته في الفصل بالنزاع من خلال إرادة أطراف النزاع ورضائهم، وكذلك كونه عقد معاوضة وملزم للجانبين[5] وكذلك بعض المسائل التي يتميز فيها المحكم عن القاضي[6].

ونجد أن إمعان البعض في الاخذ بالنظرية العقدية جعلت أنصار هذه النظرية يحاولون إيجاد صيغة عقدية من صيغ العقود المسماة تنطبق على وظيفة المحكّم، فحاولوا تكييفها[7] على أساس أنها عقد مقاولة أو على أساس أنها عقد عمل أو عقد وكالة أو حتى عقد خبرة. ولكن محاولاتهم هذه اصطدمت في كل مرة بعنصر مهم من عناصر هذا العقد المسمى نظراً للطبيعة القضائية للتحكيم مما حدى بانصار هذه النظرية إلى أن يتجنبوا ربط هذا العقد بغيره من العقود المسماة نظراً للطبيعة الخاصة التي يتمتع بها، فوصلوا إلى نتيجة مفادها أنه عقد غير مسمى ذو طبيعة خاصة.[8]

ونضيف انتقاداً آخر يقدح في الأساس الذي تبنى عليه النظرية العقدية، ألا وهو كيفية تفسير أنصار هذه النظرية الجانب التعاقدي في وظيفة المحكم بالنسبة للطرف الذي يمتنع عن الموافقة على التحكيم إلى الحدّ الذي يمتنع معه عن تعيين محكّمه. فهل تمارس المحكمة عند تعيينها للمحكم بدلاً من هذا الطرف دور التعبير عن إرادته؟ وماذا لو زاد عن هذا الحدّ بأن امتنع عن حضور إجراءات التحكيم أيضا وصدر الحكم غيابيا بحقه؟ أين تظهر إرادته لتعبّر عن الدور الاتفاقي والتعاقدي لوظيفة المحكّم؟ لعل الإجابة عن هذه التساؤلات تستلزم منا البحث عن نموذج قانوني يقدم تفسيراً آخر أوضح للنظام القانوني لوظيفة المحكم.[9]

الجزء الثاني

النظرية القضائية

ينظر أنصار هذه النظرية إلى الجانب المقابل للوظيفة القضائية التي يؤديها المحكّم بأنه في النهاية يؤدي وظيفة قضائية ويتبع خلال نظر النزاع ذات الإجراءات التي يمارسها قاضي الدولة دون أن يتأثر أي إجراء بشيء ناجم عن البداية الاتفاقية للتحكيم، لأن الصورة في النهاية هي صورة قضائية بحتة. ويزيد من الأمر كذلك أن أحكام المحكمين تحوز حجية الأمر المقضي به بمجرد صدورها،[10] وهذه الحجية بهذه الصورة لا تكون إلا للأحكام القضائية التي يصدرها القضاء النظامي للدولة.

     ونجد أن من أنصار هذه النظرية من يجد تخريجاً مقنعاً للبداية الاتفاقية لهذه الوظيفة التي يقوم بها المحكم حين نجد أنه لا يغير من الأمر شيء ذلك الدور الذي تلعبه الإرادة في التحكيم. ذلك أن للإرادة أيضا أدواراً مهمة تمارسها في ظل قضاء الدولة النظامي الذي وبالرغم من وجود هذه الإرادة لا نجد من يقول بنفي الطابع القضائي عن قضاء الدولة بسببه، فمثلا يتم رفع الدعوى بالإرادة المنفردة لأحد أطراف الخصومة القضائية، وكذلك فإنه يمكن للخصوم الاتفاق على اختصاص محكمة أخرى غير المحكمة التي تنظر الدعوى وفقاً لقواعد الاختصاص النافذة، وأيضاً فإنه يجوز للأطراف الاتفاق على رفع النزاع أمام محاكم دولة أخرى غير الدولة المختصة وفقاً لقواعد الاختصاص أيضاً [11]. بل قد يبدو المثال أكثر وضوحاً في حالة نزول أطراف الخصومة عن خصومتهم القائمة أمام القضاء فهم بذلك ينزعون بإرادتهم صلاحية القضاء بنظر النزاع.

      وقد قال أنصار هذا الاتجاه بان المحكّم حين يمارس الوظيفة القضائية فهو إنما يستمد صلاحيته في ذلك من التفويض الذي منحه المشرع للخصوم بأن يحيلوا نزاعهم إلى هيئة اختيارية تتولى ممارسة الوظيفة القضائية فقط في حدود هذا النزاع، فيكون هذا التفويض هو ما منح المحكم صلاحياته للفصل في النزاع، ويبرر بعض أنصار هذا الاتجاه أن الدولة إنما يتركز جوهر دورها القضائي في أن تقوم بتحقيق العدل بين الناس سواء كان هذا الدور يتم من خلال القضاء النظامي أو أي قضاء خاص يمارس دوره ضمن نظام قانوني واضح، بحيث يكون النظامان القضائيان عنصرين متوازيين ومتساويين لتحقيق وظيفة الدولة هذه.[12]    

     وإذا تأملنا بشيء من الدقة في الوظيفة التي يقوم بها المحكم نجد انها فعلا تتشابه إلى حد بعيد مع وظيفة القاضي وتتأثر بالكثير من صفاتها أكثر من تأثرها بالطابع الاتفاقي، حيث أن هذا الأخير يكاد ينتهي دوره الذي يبتعد فيه عن التحكيم بمجرد تعيين المحكمين، لذلك يمكن القول أن الصفة القضائية أكثر غلبة في الظهور بالتحكيم.[13]

 

الجزء الثالث

النظرية المختلطة

حاول أنصار هذه النظرية الوصول إلى صورة تتوافر فيها عناصر الطبيعة العقدية وعناصر الطبيعة القضائية والتي لا يمكن إنكار وجود كل منها في نظام التحكيم والدور الذي يمارسه المحكم في الخصومة التحكيمية[14]. ذلك أن التحكيم يبدأ تعاقدياً اتفاقياً على عناصر معينة في العملية التحيكمية ثم ينتقل إلى مرحلة إجرائية تتوافر فيها ضمانات وعناصر العملية القضائية وتنتهي بقضاء فاصل يصدر حكماً مُنهياً للخصومة يحوز على حجية الأمر المقضي به؛ بحيث يكون هذا الحكم حاسماً للنزاع حتى وإن تطلب صدور أمر قضائي نظامي بإكسائه الصبغة التنفيذية التي لا تضيف للحكم في موضوعه شيئاً، لا بل حتى لا يجوز أن تمس في مضمونه أو أن تتدخل فيه كقاعدة عامة.[15]

      ويمكن القول أن هذه النظرية قد حاولت أن تقف موقفاً وسطياً بين النظريتين اللتين قيلتا في تحديد طبيعة وظيفة المحكمين، ومن أهم المسائل التي حاولت هذه النظرية الحديث عنها مسألة تحديد النقطة الفاصلة بين الطبيعة التعاقدية والطبيعة القضائية، بحيث يمكن القول بأنه من الصعب وضع حد فاصل في هذا الشأن كون كل عمله تتم في هذا الصدد التحكيمي تحمل في ذاتها جانبا اتفاقيا وآخر قضائيا.[16]

ويمكن الحصول على خلاصة مفادها أن هناك تداخلاً في العمليات القانونية التي تتم في ضوء هذه الطبيعة المختلطة بحيث يمكن القول بأن التحكيم قالب قانوني يحتوي عمليتين قانونيتين يختلف الفاعل في كل منهما كما يختلف الموضوع فيهما والهدف منهما؛ فاتفاق التحكيم يتم عبر فاعل هو الأطراف المتنازعة أما قضاء التحكيم ففاعله هو المحكم، وموضوع اتفاق التحكيم هو خلق كيان عضوي يرفع له النزاع ليفصل فيه[17]، أما موضوع حكم التحكيم فهو النزاع الذي نشأ من أجله التحكيم، ويكون هدف الاتفاق على التحكيم اختيار هيئة تفصل في نزاع محدد، أما حكم التحكيم فيهدف إلى إصدار قرار منهي للخصومة بحسب الصورة القطعية التي تؤطر حقوق كل من أطراف الخصومة بصورة لا تقبل الطعن، وإنما قد يتم رفع دعوى مستقلة للمطالبة بإبطال الحكم ليس بسبب الاعتراض على الحقوق الناشئة عن فصل حكم التحكيم في النزاع وإنما لوجود عيوب محددة فيها حددتها التشريعات المختلفة[18].

 

 

[1] – بمعنى أوضح فإن مؤدى هذه العبارة أن اللجوء إلى التحكيم ابتداءً هو اتفاق يتم بين أطراف النزاع سواءً كان هذا الاتفاق من خلال شرط أو مشارطة تحكيم، ومن ثم ينتقل إلى مرحلة إجرائية تبدأ بتعيين المحكم وتنتهي بصدور قرار ملزم، وهذا القرار الملزم هو الصورة القضائية التي ينتهي إليها التحكيم، ويمكن فهم هذه العبارة بشكل دقيق بعد إكمال قراءة هذه المقالة.

[2] – أنظر على سبيل المثال: شفيق، محسن، 1997،التحكيم التجاري الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة، ص18 وما بعدها.

[3] – تنص المادة 54 من قانون التحكيم الأردني على أنه:

أ‌.       تنظر المحكمة المختصة في طلب التنفيذ تدقيقاً وتأمر بتنفيذه إلا إذا تبيّن لها: 1. أن هذا الحكم يتضمن ما يخالف النظام العام في المملكة، وإذا أمكن تجزئة الحكم في ما يتضمنه من مخالفة للنظام جاز الأمر بتنفيذ الجزء الباقي.  2. أنه لم يتم تبليغه للمحكوم عليه تبليغاً صحيحاً.

ب‌. لا يجوز الطعن في قرار المحكمة الصادر بالأمر بتنفيذ حكم التحكيم، أما الحكم الصادر برفض التنفيذ فيجوز الطعن فيه أمام محكمة التمييز خلال ثلاثين يوماً من اليوم التالي للتبليغ، ويترتب على تصديق القرار الصادر برفض الأمر بالتنفيذ سقوط اتفاق التحكيم.

[4] – عمر، نبيل اسماعيل، 2004، التحكيم في المواد المدنية والتجارية الوطنية والدولية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، ص31 وما بعدها.

[5] – د.ملحم، أحمد عبدالرحمن، 1994، بحث بعنوان : عقد التحكيم التجاري المبرم بين المحكمين والخصوم، مجلة الحقوق ، جامعة الكويت، يونيو 2004، ص292.

[6] – لا أتفق مع استخدام المسائل التي لا تتشابه فيها وظيفة المحكم مع وظيفة القاضي كوسيلة لاثبات الطبيعة العقدية لوظيفة المحكم، لأن ذلك يعني بالضرورة أن هذه الوظيفة تدور بين أن تكون عقدية أو قضائية فقط، مع أن هناك نظرية ثالثة حاولت إيجاد نوع خاص وذلك من خلال كونها وظيفة ذات طبيعة مختلطة.

[7] – وللمزيد حول تفاصيل موقف أنصار هذه النظرية حول كل نوع من أنواع العقود التي حاولوا تبنيها والعقبات التي واجهت هذه المحاولة أنظر: د.الطراونة،مصلح احمد و د.حزبون، جورج و النوايسة،عامر، 2004 ،بحث بعنوان : مسؤولية المحكم المدنية عن أخطائه التحكيمية، مجلة الحقوق، جامعة البحرين، العدد الثاني، يوليو 2004، ص119 وما بعدها. وكذلك : د.حداد،حفيظة السيد، مرجع سابق، ص 58 وما بعدها. وكذلك:د.النمر، أبو العلا و الجداوي، د. أحمد، 2002، المحكمون: دراسة تحليلية لإعداد المحكم ، دار أبو المجد للطباعة ، القاهرة، ص 81 وما بعدها.

[8] – مشار إلى أنصار هذه النظرية لدى: د.الطراونة، مصلح أحمد وآخرون، مرجع سابق، ص122.

[9] – سنحاول البحث عن تفنيد لإجابات هذه الأسئلة الاستنكارية التي مفادها أن اتفاق الأطراف والعلاقة العقدية لا يمكن لهما تفسير الدور القضائي الذي تمارسه هيئة التحكيم بتوجيه وصلاحية من القانون مرتبطة بإرادة الأفراد أو بديلها القانوني وذلك من خلال القول أن هناك علاقات قانونية اتفاقية أخرى يمكن أن يتدخل القانون ليضع أسس بعض المسائل فيها ولكن ذلك لا يفتّ في عضد الطبيعة الاتفاقية لها، ولكننا مع ذلك نرى أن هذه الأسئلة تشكل مطعناً قوياً في مواجهة أنصار هذه النظرية.

[10] – الطراونة، مصلح أحمد، 2010، الرقابة القضائية على الأحكام التحكيمية، دار وائل للطباعة والنشر، عمان ، ص142 وما بعدها.

[11] – د.عمر، نبيل اسماعيل، مرجع سابق، ص 33. مع مراعاة أنه في الأمثلة المطروحة لا تكون الإرادة مطلقة دائماً في الاتفاق على الاختصاص، ذلك أن بعض أنواع الاختصاص قد حددها المشرع ولائيا بصورة لا يمكن معها للأفراد نقل هذا الاختصاص إلى محاكم أخرى، ولكن هذا ممكن في بعض الحالات كالاختصاص المكاني على سبيل المثال.

[12]- للمزيد: مصطفى الجمّال وعكاشة عبدالعال، ، 1998، التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية، دون ناشر ودون مكان نشر، ص 43 وما بعدها.

[13] – الطراونة، مصلح أحمد وآخرون ، مرجع سابق، ص 122 وما بعدها.

[14] – د.الملا، إبراهيم، 2010، مسئولية المحكم، بحث منشور في مجلة التحكيم، ملحق العدد الثامن- تشرين أول 2010، بيروت، ص791. وكذلك: د.الجمال، مصطفى و د.عبدالعال، عكاشة، مرجع سابق، ص 47 وما بعدها.

[15] – شفيق،محسن، مرجع سابق ، ص 18 وما بعدها.

[16] – د.عمر، نبيل اسماعيل، مرجع سابق، ص 35.

[17] – الجمال، مصطفى و عبدالعال، عكاشة ، مرجع سابق ، ص 46 وما بعدها.

[18] – على سبيل المثال نصت المادة 49 من قانون التحكيم الاردني على أسباب دعوى بطلان حكم التحكيم.

مصنف تحت: قانون التحكيم

أكتب تعليقك