التعيين الاتفاقي لهيئة التحكيم
تحدثنا في المقالة السابقة عن المعالم الأساسية لـ طرق اختيار المحكمين وأرجئنا الحديث في تفاصيل هذا الاختيار لمقالاتٍ لاحقة منها هذه المقالة التي سنتناول فيها أولى هذه الطرق وأهمها وهي اختيار هيئة التحكيم اتفاقياً على أن نتحدث في الطرق الأخرى تجنباً للإطالة وحصراً لفكرة النقاش إلى مقالات قادمة-إن شاء الله- فنقول إن قيام الخصوم ( أطراف التحكيم ) باختيار أعضاء هيئة التحكيم بأنفسهم هو الأصل، لإنه يحقق ابتداءً الهدف الذي يرجوه هؤلاء الخصوم من اللجوء للتحكيم باختيار من يرون أنه قادر على الفصل في النزاع الناشيء بينهم. وهذا الاختيار يعتمد على رخصة منحها المشرع للأطراف دون ضرورة التزامهم في هذا الاختيار بطريقة معينة أو لاعتبارات معينة طالما التزم الخصوم بالقواعد العامة التي حددها المشرع في المحكم، أما ما هو دون ذلك من صفات المحكمين أو آليات الاختيار فقد تركها المشرع -إلى حدٍ ما- لمطلق حرية الأطراف.
وفي هذا الصدد فإنه من غير المتصور أن يقوم الأطراف باختيار المحكمين في شرط التحكيم ابتداءً [1] لاصطدام هذا الاختيار بعدة معوقات منطقية وواقعية، فقيام الأطراف بتسمية المحكمين بهذه الطريقة يخلق إشكاليات عديدة، يسبقها أن هذا الاختيار المسبق قد ينمّ عن سوء نية الأطراف وأنه يغلب في تصورهم أن يقع مثل هذا الخلاف الذي جعلهم يتفقون مسبّقاً على تحديد من ينظر هذا الخلاف، أما الإشكاليات التي يثيرها فمنها أنه قد تقع عوارض معينة تمنع المحكم من نظر النزاع كأن يفقد أهليته مثلا أو أن يتوفى أو أن يتم تعيينه لدى أحد طرفي النزاع بصورة لا تسمح للخصوم بقبول توليه لمهمة التحكيم والإشكالية الأكبر من ذلك هي أن هذا التحديد المسبق في حال اعترض أحد المحكمين عارض قبل بدء مهمة التحكيم يدخلنا في إشكالية أكبر حول صحة شرط التحكيم الذي تضمن شروطا فرعية بتسمية محكمين، بحيث يثور تساؤل حول مدى تأثير ذلك على صحة الشرط. وفي الواقع العملي فإن هذه الآلية آلية غير مستخدمة في تسمية واختيار المحكمين، وإن كنّا قد قلنا في مقالة سابقة أن محور الاتفاق على التحكيم هو “مجرد إحالة النزاع -مهما كان موضوعه- إلى التحكيم” ووصلنا إلى أنه من الممكن ضمن ظروف معينة فصل الاتفاق عن أسماء المحكمين.
وقد جاءت المادة 16 من قانون التحكيم الأردني[2] في الفقرة (أ) منها لتحدد آليات اختيار المحكمين حيث جاء فيها ” أ- لطرفي التحكيم الاتفاق على اختيار المحكمين وعلى كيفية وتاريخ اختيارهم، فإذا لم يتفقا …. ” من خلال استهلال هذه الفقرة يمكن لنا أن نفهم بوضوح أنها أطلقت يد الأطراف بتحديد طريقة التعيين التي يريدونها وأنها جعلت هذه القواعد المنظمة لآلية الاختيار تحكم عملية الاختيار فقط عند الاختلاف على هذا التعيين [3]. فقد أن للأطراف حرية اختيار الاشخاص وآلية هذا الاختيار وتاريخ الاختيار ويدل ذكر هذه الأمور على مدى هذه الحرية التي يضبطها من حيث الاصل مصالح الأطراف وتمتع كل منهما بحقوق مساوية لحقوق الطرف الآخر، فلا يتميز طرف عن آخر في هذا الاختيار. وتجدر هنا الإشارة إلى أن هذا الحق بالتعيين يبقى قائما في حال تم عزل المحكم أو رده أو انتهاء مهمته لأحد الأسباب المنصوص عليها في المادة 20 من قانون التحكيم الاردني فإن الحرية للطرف الذي قام بتعيين المحكم الذي انتهت مهمته أن يقوم بتعيين محكم بديل عنه بنفس الآليات التي يتم من خلالها اختيار المحكم الأول.
وأطراف الخصومة التحكيمية قد يختارون هم بأنفسهم الأشخاص الذين يرتضون أن يقوموا بمهمة التحكيم في النزاع الدائر بينهم استنادا إلى ما يرون فيهم من قدرة على الفصل في موضوع النزاع دون الإحالة إلى شخص او هيئة أخرى لتتولى هذا الاختيار، وقد يفوضون وكلائهم من المحامين أو شخصا من الغير أو هيئة أو منظمة ليقوموا بعملية الاختيار هذه وهو ما يسميه الفقه بالاختيار غير المباشر أو التفويض بالاختيار[4]، وهذا التفويض أجازه القانون بالنص الصريح في المادة 16/أ بقولها ” لطرفي التحكيم الاتفاق على اختيار .. وكيفية .. اختيارهم ” فالمشرع لم يضيق هذا التعيين بضرورة أن يقوم الشخص نفسه بالاختيار بل أعطاه مساحة واسعة ليقوم بهذه المهمة من خلالها. والتصريح الثاني الذي أورده المشرع ويؤدي لذات النتيجة التي تسمح بالتفويض هو ما جاء في نص المادة الخامسة من قانون التحكيم الاردني[5] والتي جاء فيها ” في الاحوال التي يجيز فيها هذا القانون لطرفي التحكيم اختيار الإجراء الواجب الاتباع في مسألة معينة فإن ذلك يتضمن حقهما في الإذن للغير في اختيار هذا الاجراء ويعتبر من الغير كل مؤسسة او مركز للتحكيم في المملكة أو في خارجها”. وومقتضى هذا النص أنه للمحتكمين صلاحية السماح لغيرهم بان يختاروا المحكم الذي سيعيّن من قبلهم.[6]
وهنا يجب أن نوضح مسألة مهمة هي أن هذا التفويض ينصب على تسمية المفوض للمحكم أو المحكمين؛ بحيث يجوز للنحتكمين الأطراف أن يفوضوا أي شخص أو جهة كما سبف باتخاذ الإجراء أو تسمية المحكمين، ولكن ما يجب الإشارة إليه أن هذه الصلاحية لا تعني بحال من الأحوال أن يمثل هذا الغير أمام الهيئة إن لم يكن محامياً؛ وهذا الموقف يؤيده نص المادة (38) من قانون نقابة المحامين النظاميين الأردني والتي حظرت على غير المحامين الإشتغال بأعمال المحاماة، والتي منها التحكيم والمثول أمام هيئات التحكيم وإن ذلك هو بدلالة أن المادة (41) التي حددت حصراً الإستثناءات الواردة على المبدأ العام أي عدم جواز اشتغال غير المحامين باعمال المحاماة وإن القاعدة القانونية والفقهية المستقرة هي ان الإستثناء لا يقاس عليه، فإذا كانت المادة (41) من القانون قد استثنت حصراً ما ورد في البنود (1 /أ و ب) والبند (3) فإن ذلك لا يعني أن أعمال التحكيم تدخل ضمن هذا البند. حيث أن قانون نقابة المحامين وبالتحديد نص المادة السادسة في فقرتها 1/ب وبدلالة المادة 38/2 من ذات القانون والتي تنص صراحة على أن المثول أمام هيئات التحكيم والتوكل عن الغير للإدعاء بالحقوق والدفاع عنها لدى المحكّمين هو عمل من أعمال المحاماة الحصرية والتي لا يجوز لغير المحامين المسجلين ممارستها. فإن نص المادة (41) من قانون نقابة المحامين لسنة 1972 وتعديلاته والذي لا يشترط المثول امام هيئة التحكيم بواسطة محامٍ، وإنما من الجائز أن يمثل أمام هيئة التحكيم المحتكم نفسه في حال عدم قيامه بتوكيل أحد المحامين المسجلين. مع الإشارة إلى أن هناك قرار لمحكمة التمييز الموقرة (هيئة خماسية) رقم (704/1995) قد جاء فيه ” أن المميز جمال أحمد حسني قد حضر بنفسه إجراءات التحكيم وصدر قرار التحكيم بمواجهته …. ” والذي جاء فيه أيضاً ” وفيما يتعلق بصحة الخصومة أمام المحكّم فإن المميز نفسه باشرها بنفسه … ” والذي تم بموجبه إرساء المبدأ القائل ” لا يوجب قانون نقابة المحامين على المتداعين أن يمثلوا أمام المحكّمين بواسطة محامين.
وخلاصة هذه الفكرة الأخيرة أعلاه أن القانون لا يمنع المتداعين من المثول بأنقسهم ودون محامٍ أمام هيئات التحكيم، ولا يمكن الاستناد إلى المادة 20 من قانون التحكيم للقول بغير ذلك.
قد يحصل أن يقوم الخصوم باختيار المحكم بصفته، كأن يكون نقيب المحامين أو نقيب المهندسين على سبيل المثال وهنا يجب أن يفضي هذا الوصف إلى شخص بعينه، فلا تجتمع الصفة في أكثر من شخص وإلا أدى ذلك إلى البطلان[7] وهذا البطلان كما أشرنا أعلاه قد يصح القول إلى أنه ينصرف إلى هذا الاختيار للمحكم وبوجهة نظري لا يمتد إلى اتفاق التحكيم ذاته إن كانت الظروف تؤدي إلى أن هذا الاختيار هو شرط في الاتفاق لا مجرد تحديد للاختصاص الفني للمحكم. وفي الواقع العملي فإن هذا التعيين يكون بموجب خطاب موجه من قبل الطرف الذي يريد تعيين المحكم إلى هذا المحكم المحتمل يردّ عليه هذا المحكم المحتمل بقبول خطي يتم إخطار الطرف الآخر بهذا التعيين ليقوم هو بدوره بتعيين محكّمه وليس هناك شكل قانوني معين لهذا الإخطار أو الإخبار بالتعيين إلا أنه وفي الواقع العملي يتم عبر إندار عدلي من لدن كاتب العدل حتى يضمن هذا الطرف تبلغ الطرف الآخر بالتعيين من خلال وثيقة حازت على الصفة الرسمية بتوجيهها من خلال كاتب العدل.
ففي حال كان المحكم منفردا فإن الطرفان يتفقان على تعيين محكمهم، أما إذا تعدد المحكمون فيختار كل منهم كما سبق محكما ويقومان أيضا بالاتفاق على اختيار و تعيين المحكم الثالث، فإذا لم يتفقا على اختياره فيقوم المحكمان المعينان باختيار وتعيين هذا المحكم الثالث[8] كخروج على الأصل الاتفاقي لهذا التعيين، وقد حرص المشرع على تحديد مدة زمنية يتوجب على الطرف الآخر – الذي تم إخطاره بوقوع تعيين للمحكم من قبل الطرف الآخر- أن يسمي محكمه خلالها وإلا فإنه يجوز للطرف الأول بأن يتوجه إلى المحكمة لتتولى دورها في تعيين هذا المحكم.
[1] - سلامة، أحمد عبدالكريم، 2006، التحكيم في المعاملات المالية الداخلية والدولية، دار النهضة العربية، القاهرة.، ص354.
[2] – يشابه نص هذه المادة نص قانون التحكيم المصري في مادته السابعة عشرة مع فارق طفيف فيما يتعلق بالمدة الممنوحة للطرف الآخر ليقوم خلالها بتعيين محكمه، حيث ان هذه المدة هي خمسة عشر يوما في النص الأردني وثلاثون يوما في النص المصري، وحسنا فعل المشرع الأردني بإنقاص هذه المدة مما يساعد على توفير السرعة في التحكيم
[3] – من خلال هذه الدور التكميلي للنص بإعماله فقط في غياب الاتفاق وبمعرفة أن العديد من قوانين التحكيم في دول العالم والاتفاقيات المنظمة للتحكيم تجعلان هذه القاعدة بتغليب حرية الاطراف في اختيار المحكمين قاعدة موضوعية من قواعد التحكيم التجاري الدولي، وتأكيدا على هذا الدور نجد ان اتفاقية نيورك لتنفيذ أحكام التحكيم الاجنبية لعام 1958 قد نصت صراحة في المادة الخامسة منها في بندها الأول على رفض الاعتراف بحكم التحكيم ورفض تنفيذه إذا تبين ” أن تشكيل هيئة التحكيم …. مخالف لما اتفق عليه الأطراف أو لقانون البلد الذي تم فيه التحكيم في حالة عدم الاتفاق” فنلاحظ ان هذا النص قد جعل الجزاء ابتداءً على مخالفة اتفاق الأطراف قبل مخالفة القانون بل وعاد وأكّد على ذات الفكرة في ذيل النص. مشار للنص عند: د.سلامة، أحمد عبدالكريم، المرجع السابق أعلاه، ص353 وما بعدها.
[4] – يقابل هذا النص نص المادة 17/1 من قانون التحكيم المصري ، ونص المادة 11/2 من قانون اليونسترال النموذجي.
[5] – يقابل هذا النص نص المادة الخامسة من قانون التحكيم المصري.
[6] – وهذا النهج في إمكانية التفويض سواء في النص الاول المشار إليه أو الثاني هو نهج اتبعته الكثير من التشريعات ومنها على سبيل المثال : قانون التحكيم اللبناني لعام 1985 وقانون التحكيم التونسي لعام 1993 وقانون التحكيم الانجليزي لعام 1996 وقانون التحكيم التركي لعام 2001 . مشار لها عند : سلامة، أحمد عبدالكريم ، مرجع سابق، ص375 .
[7] – د.عمر، نبيل اسماعيل، 2004، التحكيم في المواد المدنية والتجارية الوطنية والدولية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، ص87. وكذلك : د.البطاينة،عامر فتحي، 2009، دور القاضي في التحكيم التجاري الدولي ، دار الثقافة ، عمان ، ص80.
[8] – د.سلامة،أحمد عبدالكريم، مرجع سابق، ص 363 وما بعدها. وفي هذا الصدد يشير الدكتور أحمد عبدالكريم سلامة إلى أن هناك خطأ شائعا يقع به الفقه ويقع به أطراف النزاع التحكيمي من خصوم ومحكمين معينين، مفاده تشكل صورة خاطئة بأن تعيين المحكم الثالث يمارسه المحكمان المعينان في حين أن النص الموجود لا يؤدي إلى هذه النتيجة إلا في حال عدم اتفاق الخصوم على اختيار هذا المحكم حيث جاء في مستهل المادة 16/أ ما نصه ” … فإذا لم يتفقا على ذلك تتبع الإجراءات التالية: …” والتي من بينها أن يقوم المحكمان المعيننا باختيار المحكم الثالث. وبالتالي فإنه ليس للمحكمين المعينين أن يختارا المحكم الثالث إلا أذا تأكدا بأن الأطراف لم يستطيعا الاتفاق على اختياره، وبذلك لا محل لتعيينه بعيدا عن سمع وبصر الخصوم كما يحث في الواقع العملي الذي ولكثرة ما تتم فيه هذا الصورة الخاطئة فإن الخصوم أصلا ليس لديهم الفكرة بأن من حقهم اختيار هذا المحكم حتى لو اتفقا، وهذا الخطأ عبء في رقاب العاملين في التحكيم من محكمين ومحامين وكذلك فقهاء في مجال قانون التحكيم، وبذلك نصل إلى نتيجة في ظل غياب عدم الاتفاق مفادها أن المحكمان لا يملكان اختيار المحكم الثالث إلا بتفويض خاص لهما بالقيام بهذا الاختيار.